الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشىء عن شهرة الإسكندر، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلاّ من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تَدمر بناها سليمان عليه السلام.وأيضًا فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة سكيثوس.وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريبًا.وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم اسكندر المقدوني أثرًا في اشتهار نسبة السد إليه.وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عُراة أو عديمي المساكِن، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين.وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعْنيّ بذي القرنين في هذه الآية، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به.وأيضًا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية.ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملكُ المتحدث عنه هو أفريدون، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم.وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصرًا إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع.ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة ذو التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكًا من ملوك الصين لوجوه:أحدها: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.الثالث: أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.الرابع: أن سُدًا ورَدْمًا عظيمًا لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المَغُول، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.الخامس: ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال: «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا» وأشار بعقد تسعين أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام.وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شَاول ملك إسرائيل باسم طالوت.وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا.واسم هذا الملك تْسِينْشِي هْوَانْفتي أو تْسِينْ شِي هْوَانْقْ تِي.وكان موجودًا في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن.وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين كنفيشيوس المشرع المصلح، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيرًا وقتل علماء وأحرق كتبًا، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ.وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين.وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحِد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة.والأمر في قوله: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملًا بقوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} على أحد تأويلين في معناه.والسين في قول: {سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربّي} في سورة يوسف (98).وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرًا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص.وقوله: {مِنْهُ ذِكْرًا} تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكرًا وعظة.ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف: نحن نقصّ عليك من نبئهم، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا.وحرف من في قوله: {مِنْهُ ذِكْرًا} للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره.والتمكين: جعل الشيء متمكنًا، أي راسخًا، وهو تمثيل لقوّة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد.وحق فعل {مكنّا} التعدية بنفسه، فيقال: مكّناه في الأرض كقوله: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6].فاللام في قوله: {مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ} للتوكيد كاللام في قولهم: شكرت له، ونصحت له، والجمْع بينهما تفنن.وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6].فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف.والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض مُلكه.وتقدم عند قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف: 56].والسبب: حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} في سورة البقرة (166).و{كُلّ شَيْءٍ} مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)}.السبب: الوسيلة.والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله: {فأتبع سببًا حتى إذا بلغ مغرب الشمس} والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وءاتيناه مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا} إظهار اسم السبب دون إضماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أُريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيهًا على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقًا للسير وكان سيره للغزو، كما دلّ عليه قوله: {حَتَّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}.ولم يعدّ أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام.ويظهر أن قوله تعالى: {أسباب السموات} [فاطر: 37] من هذا المعنى.وكذلك قول زهير:
أي هاب طرق المنايَا أن يسلكها تنله المنايا، أي تأتيه، فذلك مجاز بالقرينة.والمراد ب {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته.وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل.والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين.والقول في تركيب {حتى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} كالقول في قوله: {حتى إذا ركبا في السفينة خرقها}.والعين: منبع ماء.وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {في عينٍ حمئة} مهموزًا مشتقًا من الحمأة، وهو الطين الأسود.والمعنى: عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف.وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف: في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن.ويظهر أن هذه العين من عيون النفْط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة باكو، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفًا يومئذ.والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة.وتنكير {قَوْمًا} يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.فجملة {قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ} استئناف بياني لما أشعر به تنكير {قَوْمًا} من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.وقد دل قوله: {إمَّا أن تُعَذّبَ وإمَّا أن تَتَّخِذَ فِيهمْ حُسْنًا} على أنهم مستحقون للعذاب، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه ترددًا بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله: {قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ}، أي قال في نفسه معتمدًا على حالة وسط بين صورتي التردد.وقيل: إن ذا القرنين كان نبيئًا يوحى عليه فيكون القول كلامًا موحىً به إليه يخيّره فيه بين الأمرين، مثل التخيير الذي في قوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4]، ويكون قوله: {قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ} جوابًا منه إلى ربّه.وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 79].و{حُسْنًا} مصدر.وعدل عن أن تحسن إليهم إلى {أن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسنًا} مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحُسن، مثل قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنًا} [البقرة: 83].وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.والظلم: الشرك، بقرينة قسيمه في قوله: {وأما من آمن وعمل صالحًا}.واجتلاب حرف الاستقبال في قوله: {فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ} يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه.وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: {وأمَّا مَن ءَامَنَ وعَمِلَ صالحا} أي آمن بعد كفره.ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.والمعنى: فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال: {ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرًا} وذلك عذاب الآخرة.وقرأ الجمهور: {جزاءُ الحسنى} بإضافة جزاء إلى الحسنى على الإضافة البيانية وقرأه حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف {جزاءً الحسنى} بنصب {جزاءً} منونًا على أنه تمييز لنسبة استحقاقه {الحسنى}، أو مصدر مؤكد لمضمون جملة {فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى}، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير. وتأنيث {الحُسْنَى} باعتبار الخصلة أو الفعلة. ويجوز أن تكون {الحسنى} هي الجنة كما في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].والقول اليسر: هو الكلام الحسن، وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه، وهو مثل قوله تعالى: {فقل لهم قولًا ميسورًا} [الإسراء: 28] أي جميلًا.
|